ما الذي نعنيه  عندما نقول ديكتاتورية البروليتاريا؟

مصطلح “ديكتاتورية البروليتاريا” يثير الكثير من الغموض، خاصة أن الديكتاتورية تعتبر الآن مصطلحاً سلبياً جداً، يرتبط مباشرة بالاستبداد الدموي، خصوصاً الأنظمة الوحشية التي شهدناها خلال القرن العشرين، سواء في منطقتنا أو عالمياً، مثل النازية، الفاشية، وكذلك البيروقراطية السوفيتية والأنظمة المشابهة الأخرى. هذه الأنظمة تميزت بقمعها الهمجي، واستهانتها بالمعاناة البشرية، وعدم ترددها في اللجوء إلى القتل، بما في ذلك الحرق وأفران الغاز، مما يجسد كل ما هو وحشي وسلبي في هذا المصطلح.

في هذا السياق، لا يمكن لأي مناضل نزيه أن يهب حياته للنضال من أجل بناء نظام من هذا النوع. بل يجب أن يكون النضال ضد هذه الأنظمة، وليس من أجل بنائها. هذه مسألة محسومة لكل مناضل ثوري.

عندما نتحدث الآن عن “ديكتاتورية البروليتاريا”، يخلق هذا صدمة. لكن المشكلة تكمن في أن ماركس، إنجلز، لينين، وتروتسكي، عندما تحدثوا عن ديكتاتورية البروليتاريا، لم يقصدوا المفهوم الذي نفهمه نحن الآن في أواخر القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين، بعد صعود الأنظمة الديكتاتورية في ألمانيا، إيطاليا، الاتحاد السوفيتي، وغيرها.

مصطلح “الديكتاتورية” يعود إلى الحضارة الرومانية، وخاصة مرحلة الجمهورية. آنذاك، كان يشير إلى مجموعة من السلطات الاستثنائية التي تُمنح لشخص أو لمجموعة من الأشخاص بشكل إرادي وواعي وبطريقة مؤقتة لمواجهة كارثة ما، سواء كانت حرباً، مجاعة، ثورة، أو غير ذلك. كان من الضروري تركيز السلطة في يد الأفضل بين المتساويين، وكانوا يسمونه “Primus inter pares”، أي الأفضل بين المتساويين. وكان الشرط الرئيسي هو أن هذه السلطات استثنائية وتُزال بمجرد زوال الحاجة إليها.

هذا المفهوم ليس مرتبطًا فقط بالحضارة الرومانية. مثالاً على ذلك، في المغرب خلال فترة النضال ضد الاستعمار في العديد من المناطق، حيث تُعد ثورة عبد الكريم الخطابي ومعركة أنوال في 21 يوليو 1921 نموذجاً على ذلك، حيث ثار أهل جبال الريف ضد الاستعمار الإسباني.

آنذاك، كان المجتمع قبلياً وكانت الصراعات بين القبائل معروفة، خاصة في فترات الجفاف والصراعات داخل القبائل نفسها كانت شديدة جداً. و لكن، في مواجهة كارثة خارجية، أي الاستعمار الخارجي، قامت تلك القبائل بمنح سلطات استثنائية لشخص واحد يُعتبر الأفضل بين المتساويين، وهو محمد بن عبد الكريم الخطابي. نظراً لحكمته، شجاعته، وبعد نظره، وثقافته الواسعة، والتي تضمنت حتى الثقافة الإسبانية.

هذه السلطات الاستثنائية جعلت الناس ينضبطون لقراراته. ورغم أنه كان يملك سلطة الحكم، إلا أنه كان متواضعاً ، وليس لديه أي امتيازات. كانوا يعتبرونه واحداً منهم، ولكنه يحمل سلطات استثنائية لمواجهة مشكلة الحرب. كانت هذه السلطات مصحوبة باحترام كبير له.

لكن لأسباب موضوعية و أخرى شخصية، لم يحاول الخطابي استغلال هذه السلطة لتحقيق مكاسب لنفسه. كان زاهداً إلى حد كبير، مثل الكثير من عظماء التاريخ. حتى لو حاول، فإن الأحرار المتساويين، الذين كانوا جميعهم مسلحين، كانوا سيتمردون عليه.

كانت هذه الفكرة موجودة حتى بين القراصنة. إذا كانوا على سفينة تواجه المخاطر الطبيعية ومخاطر الأعداء، وكان الجميع مسلحين وكل واحد له إرادته الخاصة، كان لابد من تجميع السلطات في يد الأفضل بين المتساويين لإدارة السفينة. هذه هي الديكتاتورية كما كانت تُفهم.

لذلك، عندما تحدث ماركس وإنجلز في البيان الشيوعي عن “ديكتاتورية البروليتاريا”، لم يحددا في البداية تفاصيل هذا المفهوم. تحدثا بشكل عام عن تحول الطبقة العاملة إلى الطبقة السائدة وانتزاع الديمقراطية. ولأن الماركسية ليست نظرية تأملية بل تستند إلى قراءة الواقع، جاءت تجربة كومونة باريس لتوضح لماركس مضمون هذه الديكتاتورية كدولة العمال التي يناضل من أجلها.

في كتابه “الحرب الأهلية في فرنسا”، تتبع ماركس تجربة كومونة باريس ووصفها بأنها “كانت مثالاً للنقيض المباشر للإمبراطورية، فقد كانت شكلاً من الجمهورية يجب أن يزيل ليس فقط الشكل الملكي للحكم الطبقي، بل الحكم الطبقي ذاته”. وأشار إلى أن أول مرسوم أصدرته الكومونة كان يقضي “بإلغاء الجيش النظامي والاستعاضة عنه بالشعب المسلح”.

أوضح ماركس أن الكومونة تشكلت من نواب بلدية تم انتخابهم عن طريق الاقتراع العام في دوائر باريس المختلفة. هؤلاء النواب كانوا مسؤولين ويمكن سحبهم أو عزلهم في أي وقت، وكانت أكثريتهم من العمال أو ممثلي الطبقة العاملة.

وأضاف ماركس أن “الشرطة التي كانت أداة في يد الحكومة المركزية، جُردت من وظائفها السياسية وحُولت إلى هيئة للكمونة مسؤولة يمكن تبديلها في أي وقت”. كما أشار إلى أن “الخدمة العامة كان يجب أداؤها مقابل أجرة تساوي أجرة عامل، وتم إزالة جميع الامتيازات التي كان يتمتع بها كبار موظفي الدولة”. بعد إلغاء الجيش النظامي والشرطة، بدأت الكومونة في كسر أداة الاستعباد الروحي، قوة الكهنة كما فقد الموظفون القضائيون استقلالهم الصوري، وأصبح من الضروري انتخابهم علناً وجعلهم مسؤولين وقابلين للسحب.

احتفى ماركس بشكل كبير بالمبادرة التي قام بها العمال في كومونة باريس، واعتبرها نموذجاً للدولة العمالية التي يطمح إليها. وعندما جاءت الثورة الروسية، استفاد لينين وتروتسكي من تجربة كومونة باريس وثورة 1905 في استخلاص العديد من الدروس، خصوصاً فيما يتعلق بطبيعة الدولة العمالية.

في كتابه “الدولة والثورة”، يوضح لينين أن الدولة العمالية يجب أن تكون على هذا النحو، ويحدد الشروط التي يجب أن تتوفر في الدولة بعد وصول الطبقة العاملة إلى السلطة. يتحدث عن إلغاء الجيش الدائم واستبداله بعمال مسلحين أو ميليشيات عمالية مسلحة تحت رقابة السوفييتات من العمال والفلاحين والجنود. ويؤكد على أن “لا أجرة لأي مسؤول في الدولة تتجاوز أجرة العامل المؤهل، وحق الجماهير الذين انتخبوا هؤلاء المسؤولين في عزلهم وإلغاء التفويض الممنوح لهم في أي وقت”. هذه هي شروط الديمقراطية العمالية كما فهمها لينين.

عندما يتحدث لينين عن إلغاء البرلمانية، يوضح أن هذا لا يعني إلغاء الحق في الانتخاب، بل يعني بناء مؤسسات تخدم الشعب المنظم. يستشهد لينين بماركس قائلاً: “بدلاً من البث مرة كل ثلاث سنوات أو ست في مسألة معرفة أي عضو من الطبقة المسيطرة يجب أن يمثل ويقمع الشعب في البرلمان، يجب على حق الانتخاب العام بدلاً من ذلك أن يخدم الشعب المنظم في الكومونة”.

سوء الفهم الذي يُعطى  لمفهوم “ديكتاتورية البروليتاريا” في وقتنا الحالي ناتج عن الحمولة التي اكتسبها المصطلح في فترات لاحقة عن الفترة التي أطلقها فيها ماركس وإنجلز ولينين وتروتسكي. لا بد أن نأخذ السياق التاريخي في الاعتبار. على سبيل المثال، قد يستغرب البعض عندما يكتب ماركس أو تروتسكي أو لينين عن “الإرهاب” أو “الإرهابيين” بنوع من التبجيل والاحترام. كيف يمكن أن يكون ذلك، وهم أشخاص يقتلون الأطفال ويفجرون أنفسهم في الأسواق؟

ماركس وتروتسكي ولينين، رغم أنهم كانوا ضد الإرهاب الفردي، تحدثوا بنوع من الاحترام تجاه الإرهابيين في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. الإرهابيون في ذلك الوقت كانوا ثوريين نزيهين، يقومون بعملياتهم حصراً ضد المسؤولين في الدولة وعلى رأسهم القيصر. لم يكونوا يقتلون الأطفال أو يفجرون أنفسهم في الأسواق، ولم يستهدفوا العمال أو المدنيين. بل كانوا يستهدفون المسؤولين في جهاز الشرطة والدولة والوزراء والقيصر بطريقة نبيلة ومليئة بالتضحية. بعضهم كان يقوم بعملياته ويبقى في مكانه حتى يُعتقل، ليحول محاكمته إلى منبر للمزيد من الفضح، وكان ذلك جزءاً من تصورهم لكيفية إشعال الثورة في روسيا.

أما اليوم، فإن مصطلح “الإرهابيين” يكفي لإثارة القشعريرة بسبب المجازر والجرائم الوحشية التي يرتكبونها، كما نرى ما يفعله ارهابيو داعش والنصرة وجيش الرب و القاعدة و غيرهم ممن يشبهم. لذلك، يجب أن نأخذ المصطلحات في سياقها التاريخي، ثم نميز بين معناها في ذلك الوقت والحمولة التي اكتسبتها لاحقاً.

هذا ينطبق على مصطلح “ديكتاتورية البروليتاريا” وأيضاً على مصطلح “الإرهاب”.

إرسال التعليق